الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذي وُكّلَ بكُمْ ثُمَّ إلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} يعني لابد من الموت ثم من الحياة بعده وإليه الإشارة بقوله: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} وقوله: {الذى وُكّلَ بكُمْ} إشارة إلى أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجلكم لا يؤخركم إذ لا شغل له إلا هذا وقوله: {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} ينبىء عن بقاء الأرواح فإن التوفي الاستيفاء والقبض هو الأخذ والإعدام المحض ليس بأخذ، ثم إن الروح الزكي الطاهر يبقى عند الملائكة مثل الشخص بين أهله المناسبين له والخبيث الفاجر يبقى عندهم كأسير بين قوم لا يعرفهم ولا يعرف لسانهم، والأول ينمو ويزيد ويزداد صفاؤه وقوته والآخر يذبل ويضعف ويزداد شقاؤه وكدورته، والحكماء يقولون إن الأرواح الطاهرة تتعلق بجسم سماوي خير من بدنها وتكمل به، والأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلق الثاني فإن أرادوا ما ذكر بها فقد وافقونا وإلا فيغير النظر في ذلك بحسب إرادتهم فقد يكون قولهم حقًا وقد يكون غير حق، فإن قيل هم أنكروا الإحياء والله ذكر الموت وبينهما مباينة نقول فيه وجهان أحدهما: أن ذلك دليل الإحياء ودفع استبعاد ذلك فإنهم قالوا: ما عدم بالكلية كيف يكون الموجود عين ذلك؟ فقال: الملك يقبض الروح والأجزاء تتفرق فجمع الأجزاء لا بعد فيه، وأمر الملك برد ما قبضه لا صعوبة فيه أيضًا، فقوله: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} أي الأرواح معلومة فترد إلى أجسادها.{وَلَوْ تَرَى إذ الْمُجْرمُونَ نَاكسُو رُءُوسهمْ عنْدَ رَبّهمْ}.لما ذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بين ما يكون عند الرجوع على سبيل الإجمال بقوله: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون نَاكسُوا رُءوسهمْ} يعني لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجبًا، وقوله: {تَرَى} يحتمل أن يكون خطابًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تشفيًا لصدره فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عامًا مع كل أحد كما يقول القائل إن فلانًا كريم إن خدمته ولو لحظة يحسن إليك طول عمرك ولا يريد به خاصًا، وقوله: {عندَ رَبّهمْ} لبيان شدة الخجالة لأن الرب إذا أساء إليه المربوب، ثم وقف بين يديه يكون في غاية الخجالة.ثم قال تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} يعني يقولون أو قائلين {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} وحذف يقولون إشارة إلى غاية خجالتهم لأن الخجل العظيم الخجالة لا يتكلم، وقوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} أي أبصرنا الحشر وسمعنا قول الرسول فارجعنا إلى دار الدنيا لنعمل صالحًا، وقولهم: {إنَّا مُوقنُونَ} معناه إنا في الحال آمنا ولكن النافع الإيمان والعمل الصالح، ولكن العمل الصالح لا يكون إلا عند التكليف به وهو في الدنيا فارجعنا للعمل، وهذا باطل منهم فإن الإيمان لا يقبل في الآخرة كالعمل الصالح أو نقول المراد منه أنهم ينكرون الشرك كما قالوا: {وَمَا كُنَّا مُشْركينَ} [الأنعام: 23] فقالوا إن هذا الذي جرى علينا ما جرى إلا بسبب ترك العمل الصالح وأما الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا.{وَلَوْ شئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكنْ حَقَّ الْقَوْلُ منّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعينَ (13)}.جوابًا عن قولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا فارجعنا} [السجدة: 12] وبيانه هو أنه تعالى قال: إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم، وقوله: {وَلَوْ شئْنَا لأَتَيْنَا} صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول إن الله ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر، ثم قال تعالى: {ولكن حَقَّ القول منْى لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ} أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ منكَ وَممَّن تَبعَكَ} [ص: 85] هذا من حيث النقل وله وجه في العقل وهو أن الله تعالى لم يفعل فعلًا خاليًا عن حكمة وهذا متفق عليه والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل؟ وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال، فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي وهو أن الفعل إما أن يكون خيرًا محضًا أو شرًا محضًا أو خيرًا مشوبًا بشر وهذا القسم على ثلاثة أقسام قسم خيره غالب وقسم شره غالب وقسم خيره وشره مثلان، إذا علم هذا فخلق الله عالمًا فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي وخلق عالمًا فيه خير وشر وهو عالمنا وهو العالم السفلي ولم يخلق عالمًا فيه شر محض، ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا، وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب، فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار، تجد المنافع أكثر، وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر، وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر، ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلًا من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء، والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير أصلًا غاية ما في الباب أن الكفر يحبط خيره ولا ينفعه، إنما يستحيل نظرًا إلى العادة أن يوجد كافر لا يسقي العطشان شربة ماء ولا يطعم الجائع لقمة خبز ولا يذكر ربه في عمره، وكيف لا وهو في زمن صباه كان مخلوقًا على الفطرة المقتضية للخيرات، إذا ثبت هذا فنقول قالوا: لولا الشر في هذا العالم لكانت مخلوقات الله تعالى منحصرة في الخير المحض ولا يكون قد خلق القسم الذي فيه الخير الغالب والشر القليل ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة، ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار، فلو امتنع وقال في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي فيقال له لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك وكذلك الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف فخلق العالم الذي يقع فيه الشر وإلى هذا أشار بقوله: {إنّي جَاعلٌ في الأرض خَليفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فيهَا مَن يُفْسدُ فيهَا وَيَسْفكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بحَمْدكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فقال الله تعالى في جوابهم: {إنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير، ثم بين لهم خيره بالتعليم، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة.وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب، فقوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فيهَا مَن يُفْسدُ فيهَا} إشارة إلى الشر، وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء} فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى: {وَلَوْ شئْنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر، لكن حينئذٍ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول، فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة، لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة، وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير، وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر، فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل، وقوله: {منَ الجنة والناس} لأنه تعالى قال لإبليس: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ منكَ وَممَّن تَبعَكَ} [ص: 85] وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي، والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة، وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح.وقوله: {أَجْمَعينَ} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون تأكيدًا وهو الظاهر والثاني: أن يكون حالًا، أي مجموعين، فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار؟ نقول هذا لبيان الجنس، أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمنًا للملائكة، ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس، فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلىء ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة، والله أعلم.ولما بين الله تعالى بقوله: {وَلَوْ شئْنَا لأَتَيْنَا} أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم.{فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هَذَا إنَّا نَسينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْد بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}.المسألة الأولى:قوله: {فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ لقَاء} لقاء يحتمل أن يكون منصوبًا بذوقوا، أي ذوقوا لقاء يومكم بما نسيتم، وعلى هذا يحتمل أن يكون المنسي هو الميثاق الذي أخذ منهم بقوله: {أَلَسْتَ برَبّكُمْ قَالُوا بلى} [الأعراف: 172] أو بما في الفطرة من الوحدانية فينسى بالإقبال على الدنيا والاشتغال بها ويحتمل أن يكون منصوبًا بقوله: {نَسيتُمْ} أي بما نسيتم لقاء هذا اليوم ذوقوا، وعلى هذا لو قال قائل النسيان لا يكون إلا في المعلوم أولًا إذا جهل آخرًا نقول لما ظهرت براهينه فكأنه ظهر وعلم، ولما تركوه بعد الظهور ذكر بلفظ النسيان إشارة إلى كونهم منكرين لأمر ظاهر كمن ينكر أمرًا كان قد علمه.المسألة الثانية:قوله تعالى هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون إشارة إلى اليوم، أي فذوقوا بما نسيتم لقاء هذا اليوم وثانيها: أن يكون إشارة إلى لقاء اليوم، أي فذوقوا بما نسيتم هذا اللقاء وثالثها: أن يكون إشارة إلى العذاب، أي فذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم، ثم قال إنا نسيناكم، أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعله الناسي قطعًا لرجائكم، ثم ذكر ما يلزم من تركه إياهم كما يترك الناسي وهو خلود العذاب، لأن من لا يخلصه الله فلا خلاص له، فقال: {وَذُوقُوا عَذَابَ الخلد بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. اهـ..قال ابن العربي: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذي وُكّلَ بكُمْ ثُمَّ إلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ}.قَالَ الْقَاضي: هَذه الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ في جَميع الْأَحْكَام الْقُرْآنيَّة، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبيُّ في كُتُب الْفقْه خَاصَّةً مُنْتَزعًا بهَا لجَوَاز الْوَكَالَة منْ قَوْله: {الَّذي وُكّلَ بكُمْ} وَهَذَا أَخْذٌ منْ لَفْظه، لَا منْ مَعْنَاهُ؛ فَإنَّ كُلَّ فَاعلٍ غَيْر اللَّه إنَّمَا يَفْعَلُ بمَا خَلَقَ اللَّهُ فيه منْ الْفعْل، لَا بمَا جَعَلَ إلَيْه، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ في أُصُول الدّين.وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلكَ لَقُلْنَا في قَوْله: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنّي رَسُولُ اللَّه إلَيْكُمْ جَميعًا} أَنَّهَا نيَابَةٌ عَنْ اللَّه تَعَالَى، وَوَكَالَةٌ في تَبْليغ رسَالَته، وَلَقُلْنَا أَيْضًا في قَوْله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} إنَّهُ وَكَالَةٌ في أَنَّ اللَّهَ ضَمنَ الرّزْقَ لكُلّ دَابَّةٍ، وَخَصَّ الْأَغْنيَاءَ بالْأَغْذيَة، وَأَوْعَزَ إلَيْهمْ بأَنَّ رزْقَ الْفُقَرَاء عنْدَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بتَسْليمه إلَيْهمْ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا في وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَدَبَّرَهُ بعلْمه، وَأَنْفَذَهُ منْ حُكْمه، وَقَدَّرَهُ بحكْمَته، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ في مَوْضعه.وَلَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بالْأَلْفَاظ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَوْضُوعَاتهَا الْأَصْليَّة في مَقَاصدهَا الْمَطْلُوبَة، فَإنْ ظَهَرَتْ في غَيْر مَقْصدهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصدُهَا.أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى منْ الْمُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ}.وَلَا يُقَالُ: هَذه الْآيَةُ دَليلٌ عَلَى جَوَاز مُبَايَعَة السَّيّد لعَبْده؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَيْن مُخْتَلفَان.وَهَذَا غَرَضٌ شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابنَا عَنْهُ، فَإذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ يَسْتَطيعُوا جَوْبَهُ، وَلَا وُجدَ امْرُؤٌ منْهُمْ جَيْبَهُ.وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذه الْآيَة في الْمُشْكَلَيْن، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فيهَا عَنْ الْإسْفَرايينيّ، منْ طَريق الشَّهيد أَبي سَعيدٍ الْمَقْدسيّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالقُ لكُلّ شَيْءٍ، الْفَاعلُ حَقيقَةً لكُلّ فعْلٍ، في أَيّ مَحَلٍّ كَانَ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ، وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْه رَاجعُونَ، وَعَلَى قُدْرَته مُحَالُونَ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ، وَفي كتَابه مَكْتُوبٌ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْت، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْه قَبْضَ الْأَرْوَاح، وَاسْتلَالَهَا منْ الْأَجْسَام، وَإخْرَاجَهَا منْهَا عَلَى كَيْفيَّةٍ بَيَّنَّاهَا في كُتُب الْأُصُول، وَخَلَقَ جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بأَمْره مَثْنَى وَفُرَادَى.وَالْبَاري تَعَالَى خَالقُ الْكُلّ، فَأَخْبَرَ عَنْ الْأَحْوَال الثَّلَاثَة بثَلَاث عبَارَاتٍ، فَقَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حينَ مَوْتهَا وَاَلَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامهَا}، إخْبَارًا عَنْ الْفعْل الْأَوَّل، وَهُوَ الْحَقيقَةُ.وَقَالَ في الْآيَة الْأُخْرَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذي وُكّلَ بكُمْ} خَبَرًا عَنْ الْمَحَلّ الْأَوَّل الَّذي نيطَ به، وَخَلَقَ فعْلَهُ فيه.وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُوا الْمَلَائكَةُ}، وَمَا أَشْبَهَ ذَلكَ منْ أَلْفَاظ الْحَديث خَبَرًا عَنْ الْحَالَة الثَّانيَة الَّتي تُبَاشرُ فيهَا ذَلكَ.فَالْأُولَى حَقيقَةٌ عَقْليَّةٌ إلَهيَّةٌ، وَالثَّانيَةُ حَقيقَةٌ عُرْفيَّةٌ شَرْعيَّةٌ بحُكْم الْمُبَاشَرَة.وَقَالَ: مَلَكُ الْمَوْت إنْ بَاشَرَ مثْلَهَا وَإنْ أُمرَ فَهُوَ كَقَوْلهمْ: حَدَّ الْأَميرُ الزَّانيَ وَعَاقَبَ الْجَانيَ.وَهَذه نهَايَةٌ في تَحْقيق الْقَوْل.قَالَ ابْنُ الْعَرَبيّ: أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ منْ التَّسَوُّر عَلَى الْمَعَاني، وَدَفْع الْجَهْل عَنْهَا في غَيْر مَوْضعهَا، وَالْإعْرَاض عَنْ الْمَقَاصد في ذَلكَ، فَيُقَالُ: إنَّ هَذه الْآيَةَ دَليلٌ عَلَى أَنَّ للْقَاضي أَنْ يَسْتَنيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ ممَّنْ هُوَ عَلَيْه قَسْرًا دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ في ذَلكَ فعْلٌ أَوْ يَرْتَبطَ به رضًا إذَا وُجدَ ذَلكَ.وَهُوَ التَّحْقيقُ الْحَاضرُ الْآنَ، وَتَمَامُهُ في الْكتَاب الْكَبير. اهـ.
|